العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان
مقدمــة
يعتبر موضوع العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، من الموضوعات التي تنازعت حوله ثلاث نظريات في الفكر القانوني، أولها النظرية الانفصالية والتي ترى أن القانونين مختلفان ومستقلان، وثانيها النظرية التوحيدية والتي تفيد أن القانونين متشابكان أو مندمجان، أما ثالثها النظرية التكاملية والتي يرمي جوهرها بأن القانونين نظامين متمايزين ولكنهما متكاملان، فقد ظل ينظر البعض من فقهاء القانون الدولي إلى هذين القانونين لسنوات عديدة على أنهما مجالان منفصلان تماما، أما البعض الآخر فيرى على عكس الرأي الأول بأنهما متحدان، على أن المطلع على مجمل المؤلفات القانونية الحديثة يتأكد من أن النظرة السائدة – نسبيا – هى أن القانونين كليهما يكمل الآخر، أي متكاملين.
وأيا كان من أمر هذه النظريات والآراء، فإن الأهمية الأكاديمية والعلمية لهذا الموضوع – أو ما يسعى إليه هذا المقال- تتمثل ببيان المجال القاعدي الخاص بكل منهما [1] وإبراز المساحة المشتركة بين القانونين، أي بمعنى إيجاد القوا سم المشتركة بينهما، وكذلك والفروق بينهما.
وانطلاقا من هذه الأهمية، فإن التساؤلات الأساسية التي تطرح تكمن في التالي:
- هل القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان فرعان للقانون الدولي العام مستقلان؟ أم مندمجان ؟أم متكاملان؟ أم ماذا ؟
- ما مدى صحة الأسانيد والآراء القانونية وشواهد الممارسة الدولية التي تؤكد أو تنفي هذا الاستقلال أو الاندماج أو التكامل بينهما ؟
- هل يمكن اعتبار القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان جناحان لحماية الإنسان في وقتي الحرب والسلم ؟
وبناء على ما تقدم فإن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها سيتم في إطار اختيار الفرضية التالية:
كلما اتسعت وانتشرت الأسانيد القانونية والشواهد الدولية التي تؤكد وجود علاقة تكاملية بين القانونين أدى ذلك إلى مرونة تقديم حماية متكاملة للإنسان في زمني الحرب والسلم.
وهذا ما سنعالجه بنوع من التبسيط فيما يلي من نقاط أساسية:
أولا: تعريف القانونين
لقد جاء بيان بعض التعاريف الفقهية لكل من القانونين في صدارة ما سوف نتكلم عنه باعتباره مدخلا ضرورياً في إيضاح مدى الاختلاف بينهما من حيث التعريف والطبيعة من ناحية أولى، أما من ناحية ثانية للاستفادة من تعريفيهما للإجابة عن تساؤل مهم مؤداه هل تكون القواعد الدولية العرفية والمكتوبة لكل من القانونين فرعين مستقلين من فروع القانون الدولي؟ وذلك عبر ما يلي:
أ* . تعريف القانون الدولي الإنساني
مقارنة بالمصطلحات التي درجت معظم المؤلفات القانونية على استخدامها في الماضي مثل "قانون الحرب" و/أو "قانون النزاعات المسلحة" فإن مصطلح "القانون الدولي الإنساني" حديث الاستخدام بصورة مألوفة وشائعة في كل المؤلفات الفقهية والمحافل والمؤتمرات الدولية، إلا أنه ومع هذا الانسجام في استخدام هذا المصطلح الحديث نسبيا، فالباحث عن تعريف له في آراء الفقه الدولي يرى أن هناك نوعا ما اختلافا بينهم حول مسألة التعريف بالمعنى الواسع لهذا القانون، وأيا كان من أمر هذا الاختلاف فإن هناك تطابق بعيد المدى في وجهات نظر فقهاء القانون الدولي فيما يتعلق بوضع تعريفا بالمعنى الضيق لهذا القانون [2]، إذ تجمع أغلب آراء الفقهاء حول التعاريف التالية:
يعرف الأستاذ الدكتور عامر الزمالى القانون الدولي الإنساني بأنة " فرع من فروع القانون الدولي العام تهدف قواعده العرفية والمكتوبة إلى حماية الأشخاص المتضررين في حالة نزاع مسلح بما أنجر عن ذلك النزاع من آلام، كما تهدف إلى حماية الأموال (الأعيان) التي لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية " [3] .
أما الأستاذ الدكتور محمد نور فرحات فيعرفه بأنه " مجموعة المبادئ والقواعد المتفق عليها دوليا، والتي تهدف إلى الحد من استخدام العنف في وقت النزاعات المسلحة عن طريق حماية الأفراد المشركين في العمليات الحربية أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها، والجرحى والأسرى والمدنيين، وكذلك عن طريق جعل العنف في المعارك العسكرية مقتصرا على تلك الأعمال الضرورية لتحقيق الهدف العسكري " [4].
أما الأستاذ جان بكتيه فيعرفه كما يلي بأنه " فرع مهم من فروع القانون الدولي العام يدين بوجوده لإحساس بالإنسانية، ويركز على حماية الأموال التي ليس لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية..." [5].
ومن خلال قراءة التعاريف السابقة قراءة تحليلية تتناسب والغرض من المقال نستطيع تسجيل الملاحظات الثلاثة التالية:
- إنه من حيث الشكل يخضع هذا الفرع على أقل للقواعد التي تحكم بقية فروع القانون الدولي العام، خاصة فيما يتعلق بإعداد النص القانوني وصياغته ومناقشته وتوقيعه والمصادقة عليه [6]، إلا
أن هذا القول لا يمنع من أن هناك بعض القواعد الخاصة التي تتضمنها بعض المواثيق الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني قد خرجت عن الأصل العام في اتفاقية فينا لقانون المعاهدات
لعام1969 [7]، فعلى سبيل المثال تضمن البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 الملحقين باتفاقيات جنيف لعام 1949 بعض القواعد الخاصة لا يقابلها مثيل في قانون فينا للمعاهدات، منها أن
يدخل البروتوكولين حيز النفاذ بعد مرور ستة شهور من تاريخ إيداع صكين للتصديق على الأقل، ويرجع المهتمون هذا الأمر إلى أهمية قواعد هذين البروتوكولين، وضرورة تطبيقيهما بأسرع ما يمكن [8].
- من الملاحظ أن القانون الدولي الإنساني يخاطب بقواعد إلى جانب الدولة الفرد، ويركز على حمايته، حيث أصبح الفرد في ظله- وعلى هدي التعاريف السابقة- يتمتع نوعا ما بشخصية قانونية دولية، رغم ما قد قيل عن عدم اكتمالها، فيرى بعض الباحثين ومنهم الدكتور محمد عزيز شكري بأن القانون الدولي في الزمن المعاصر لم يعد قانون الدول والمنظمات الدولية فحسب بل غدا أيضا قانون الفرد، مرجعين هذا الأمر إلى التطور الذي لحق بالقانون الدولي في الأزمنة الحديثة بحيث أصبح في بعض الحالات يخاطب الإنسان مباشرة بحقوق وواجبات معينة هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن عندهم – أي الباحثين- لو أخذت عبارة أو مصطلح القانون الدولي الإنساني على إطلاقها فإنها تشمل قواعد القانون الخاص بالإنسان وحمايته [9].
- وبنظرة أكثر تحليلية على جوهر التعاريف سابقة الذكر، نلاحظ بأن أصحابها جميعا يؤكدون بأن القانون الدولي الإنساني هو فرع من فروع القانون الدولي العام، وذلك لأنه يتضمن كافة العناصر الضرورية التي تكون الفرع، والتي يحددها البروفسور ديب عكاوى كما يلي:
01/ وجود موضوع خاص تعالجه القواعد القانونية الدولية التي تشكل هذا الفرع.
02/ توفر قواعد قانونية عامة ملزمة داخل الفرع.
03/ وجود مبادئ خاصة تنظم تشكيل الفرع الجديد للقانون الدولي.
04/ رغبة المجتمع الدولي في إفراز فرع جديد للقانون الدولي.
05/ وجود على الأقل وثيقة قانونية واحدة تثبت قواعد هذا الفرع [10].
والمطلع على قواعد القانون الدولي الإنساني يتأكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن هذا القانون يكون فرعا من فروع القانون الدولي، وذلك لأن كل هذه العناصر متوفرة فيه، مما قد يبرر رأي القائلين بلزوم استقلال هذا القانون عن غيره من فروع القانون الدولي، وبالتحديد القانون الدولي لحقوق الإنسان، باعتبار هذين القانونين فرعين مستقلين عن بعضيهما البعض، إلا أن الإقرار بهذا القول – وبصفة مبدئية- لم يمنع أولا الكثير من الفقهاء ومنهم البروفسور الروسي ي.ب. بليشينكو من اعتبار حماية حقوق الإنسان في وقت السلم قسما من أقسام القانون الدولي الإنساني، مرجعا ذلك لمجموعة من الاعتبارات على رأسها الولادة السابقة والممتدة في الزمن الماضي للقانون الدولي الإنساني عنها بالولادة المتأخرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان [11]. أما ثانيا فإن القول باستقلالية هذا الفرع لا يعني وبكل الأحوال عدم إمكانية إيجاد جسر وطيد بينه وبين الفروع الأخرى للقانون الدولي العام وخصوصا القانون الدولي لحقوق الإنسان، هذا الجسر يؤدي حتما إلى إصباغهما بصبغة تكاملية على أقل تقدير في التطبيق على مناطق جغرافية معينة وحالات محددة.
وعلاوة على ما تقدم فإن استقلالية القانون الدولي الإنساني – على أساس أنه فرع من فروع القانون الدولي- تؤكد ضرورة وجود علاقات تربط بينه وبين الفروع الأخرى للقانون الدولي العام، وخصوصا القانون الدولي لحقوق الإنسان، هذه العلاقة التي تؤدي إلى تفاعله وانسجامه في محيط العلاقات الدولية المتأرجحة أصلا بين حالتي السلم والحرب.
ب* . تعريف القانون الدولي لحقوق الإنسان
على نفس السياق المتقدم تجدر الإشارة إلى ما يرى الأستاذ الدكتور: جان بكتيه بأنه صحيح –ولو نظريا- استعمال بعض الكتاب اصطلاح " قانون حقوق الإنسان Droit De Homme" وذلك لأن كل خبراء القانون الدولي يميزون بين "القانون الموضوعي" أي مجموعة القواعد التي تحكم العلاقات بين الناس و "القانون الشخصي" وهو ما يستطيع كل إنسان أن يطالب من خلاله حقوق معينة في مجتمع بشري، وذلك فالمصطلح أعلاه كما يرى الأستاذ جان بكتيه صائب جدا لأنه يحمل بين طياته هذين المفهومين [12].
وعليه يعرف الأستاذ الدكتور عمر سعد الله هذا القانون بأنه "فرع من فروع القانون الدولي العام تهدف قواعده العرفية والمكتوبة إلى حماية الحقوق المتأصلة في طبيعة الأفراد والجماعات والأقليات والشعوب والتي لا يتسنى بغيرها العيش عيش البشر" [13].
أما الأستاذ نزار أيوب فعنده القانون الدولي لحقوق الإنسان هو "أحد فروع القانون الدولي المعاصر الذي يكفل حماية الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات من انتهاكات من قبل الحكومات الوطنية، ويساهم في تطوير وتعزيز هذه الحقوق والحريات" [14].
أما الأستاذ الدكتور محمد نور فرحات فيتمثل عنده هذا القانون في "مجموعة القواعد والمبادئ المنصوص عليها في عدد من الإعلانات والمعاهدات الدولية، والتي تؤمن حقوق وحريات الأفراد والشعوب في مواجهة الدولة أساسا..." [15].
وفضلا عما ذكر من تعار يف فهناك مجموعة كبيرة من هذه التعاريف تدور كلها في فلك التعاريف أعلاه، التي توصلنا إلى عدد من ملاحظات المسلم بها، منها أن القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يختلف عن غيره من القوانين الدولية، فهو كما يبدو فرع من فروع القانون الدولي العام لأنه يخضع من حيث الشكل على الأقل للقواعد التي تحكم بصفة عامة مجمل فروع القانون الدولي، وأنه يهدف من خلال قواعده العرفية والمكتوبة إلى حماية حقوق الإنسان والبشر جميعا في كل الأوقات، وإن كانت قواعده المكتوبة تبرز بشكل أساسي على المستوى الدولي بما يسمى بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان التي تتألف من مواثيق رئيسية له، أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لعام 1966، إلى جانب عدد ليس قليل من الاتفاقيات الدولية والإقليمية الأخرى لحقوق الإنسان.
وحتى لا نطيل في هذه النقطة التي تشكل مدخلا لدراسة العلاقة بين القانونين، هذه العلاقة التي تؤكد مجمل المؤلفات القانونية بأنها تدور بين الاختلاف والالتقاء، فهذا سيكون تبعا محلا لدراستنا في النقاط المتبقية من هذا المقال.
ثانيا: أوجه الاختلاف بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان
مع محاولة الكثير من شراح القانون الدولي تقديم طريقة يمكن من خلالها التقريب بين فرعي القانون الدولي أعلاه، قصد تعظيم الحماية للأفراد الذين يتضررون من النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، ومن هؤلاء الشراح البروفيسور "كالين"، إلا أن الملاحظ على هذه الطريقة (أو المنهج) بأنها لا تخلو من مشكلات فكرية وعملية [16]، لأنه من الناحية الفكرية والعملية هناك اختلافات بارزة بين القانونين، يمكن قراءتها من خلال بعض الآراء والأسانيد القانونية والشواهد الدولية التي تؤكد أوجه الاختلافات على النحو التالي:
أ*. من حيث تباين مفهوميهما
سبق وأن ذكرنا هذا التباين بنوع من التفصيل في النقطة الأولى من هذا المقال، والذي دلل على أن كلا من القانونين يكونان فرعين مستقلين للقانون الدولي من حيث المفهوم، أما من حيث الشكل فإن لكلا منهما مواثيق دولية تنظمهما وتعكس ذاتيتهما.
ويكتمل تباين المفهومين إذا علمنا أن القانون الدولي الإنساني يقوم على التخفيف من معاناة الإنسان أثناء النزاعات المسلحة، إذ يجمع مفهومه بين فكرتين مختلفتين في طبيعتهما، فالأولى قانونية والثانية أخلاقية، أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فهو تعبير عن التزامات قانونية دولية باحترام حقوق وحرية الأفراد والشعوب وتمكينها من العيش في رفاهية، ومع هذا الاختلاف البارز في مفهوم كلا من القانونين، فإن البعض من كتاب القانون الدولي، ومنهم الفقيه جان بكتيه والدكتور محمد طلعت الغنيمي لا يميزان بين مضمون ومفهوم هذين القانونين، حيث عرفا القانون الدولي الإنساني بأنه "مجموعة من القواعد الدولية التي تضمن حرية شخص الإنسان ورفاهيته" [17]، إلا أن هذا التعريف الذي اعتبره الدكتور عمر سعد الله خلط بين مفهوم كلا من القانونين، لا يمنع بأن التعريف أعلاه – محل الخلاف- يصلح باعتباره تعريفا بالمعنى الواسع للقانون الدولي الإنساني، وهذا عائد لالتقاء هذين المفهومين من حيث الهدف وبعض المبادئ المشتركة بينهما، فضلا عن ذلك فإن من خلال هذا التعريف قد نستطيع به سد بعض الفجوات في حالة النزاع المسلح الداخلي وذلك بإيجاد ضوابط تحدد الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية .
ب*. الاختلاف من حيث نطاق التطبيق
على الرغم من ما يرى المثاليون بأن السلم هو الأصل في العلاقات الدولية، والحرب هي الاستثناء، إلا أن القراءات الإحصائية تدل على عكس ذلك، حيث تبين أنه خلال 185 جيلا من الأجيال لم ينعم بالسلم المؤقت من بينهما إلا عشرة أجيال فقط [18]، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في تحديد حالة الأصل أو الاستثناء في العلاقات الدولية، فإن الواقع القانوني يدل على وجود اختلاف جوهري من الناحية القانونية بين مجال تطبيق كلا من القانونين، فالقانون الدولي الإنساني ينطبق من حيث الزمان عند بداية النزاعات المسلحة، أما من حيث النطاق المادي فانه ينطبق على كل حالة تأخذ وصف النزاع المسلح كان دوليا أو غير دوليا، أما من حيث النطاق الشخصي فإنه يمنح حماية لفئتين وهما ضحايا النزاعات المسلحة من جرحى وموتى وأسرى، والمدنيين، بينما ينطبق القانون الدولي لحقوق الإنسان في زمن السلم أساسا، أي على الأوضاع الطبيعية للدول ويوقف العمل ببعض أحكامه في الظروف الاستثنائية للدول، وذلك بمقتضى المادة الرابعة من العهد الدولي لحقوق المدنية والسياسية، هذه المادة التي لم تحدد ضمن فقراتها "حالة الحرب" كحالة استثنائية.
وعليه يبقى السؤال مطروح هل يعتبر دخول الدولة في حالة نزاع مسلح دولي أو داخلي من قبيل الحالات الاستثنائية (الطوارئ العامة) التي تجيز للدولة التحلل من التزاماتها الدولية الحامية
لحقوق الإنسان؟
كما يرى أغلبية الفقهاء أن إجابة هذا السؤال تكون بالإيجاب، وذلك لأنه يستفاد من مراجعة الأعمال التحضيرية للمادة الرابعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بأنها كانت تضم حالة الحرب كحالة استثنائية [19]، ومع هذا فيجب التأكد على مبدأ عدم جواز التحلل في الظروف الاستثنائية من الالتزام باحترام حقوق الإنسان الأساسية غير القابلة للتقييد، إضافة إلى احترام الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية المرسخ في المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والتي تطبق حين تصل درجة القلاقل الداخلية إلى حد وصفها بالنزاعات المسلحة غير الدولية [20].
ج*. الاختلاف من حيث بعض الحقوق المحمية
يتمثل الاختلاف القائم بين القانونين في هذه النقطة بكثير من الأمور، والتي سنبرز أهمها بما يلي:
- الحق في الحياة: هناك اختلاف بارز للوهلة الأولى بين القانونين فيما يتعلق بالحق في الحياة، ففي القانون الدولي لحقوق الإنسان يعتبر الحق في الحياة حقا غير قابلا للانتقاص ويحتل مكان الصدارة في منظومة حقوق الإنسان، ولكن هذا القول لا يمنع بأن هذا الحق ليس مطلقا حيث أنه يخضع للحق في استخدام القوة القاتلة في الإعدامات القانونية أو في حالة الدفاع عن النفس، أما القانون الدولي الإنساني يعترف بحق المقاتلين في إطلاق النار وإيقاع القتل بين المقاتلين الآخرين لدى رؤيتهم ودون إنذار مسبق.
- الحقوق المتصلة بالمحاكمة والاعتقال: يكمن الاختلاف بين القانونين هنا من حيث المعيار المعتاد، ففي القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يحوز الحرمان من الحرية إلا بعد محاكمة عادلة كعقوبة على عمل إجرامي، أي يحظى الحق في المحاكمة العادلة بالحماية، أما القانون الدولي الإنساني فإنه يحمي الحق في احتجاز المحاربين دون محاكمتهم باعتبارهم أسرى حرب، وكذلك يعطي دولة الاحتلال سلطة اعتقال المدنيين ومحاكمتهم عبر محكمة لابد أن تتوافر على شروط معينة من أهمها أن تكون هذه المحكمة عسكرية وغير سياسية [21]، وإن كان يستفاد من المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكول الإضافي الثاني حق محاكمة وعقاب من يشتركون في نزاع مسلح داخلي بشرط مراعاة المعايير الدنيا الضرورية من أجل محاكمة عادلة [22].
- الحق في حرية التحرك: يضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان الحق في حرية التحرك، رهنا بالقيود المعتادة بالنسبة للأمن القومي والنظام العام، وإمكانية الانتقاص منها أثناء حالات الطوارئ، أما القانون الدولي الإنساني فيحتوي حظر صريح يفيد منع تشريد المدنيين أثناء النزاعات المسلحة لغير أسباب الضرورة الحربية، كما أن هناك حظرا صريحا على بعض أشكال الإجلاء بالقوة المسلحة حيث يعتبر ذلك جريمة من جرائم الحرب وجريمة ضد الإنسانية.
وإن كانت الموضوعات التي تثير الجدل في نقطة الاختلاف من حيث بعض الحقوق المحمية كثيرة، إلا أننا نكتفي برصد هذا القدر من الاختلاف بين القانونين من زاوية الحقوق المحمية، على أننا سوف ننوه لبعضها الآخر في سطور أخرى من هذا المقال.
د* . الاختلاف من حيث المخاطب بأحكامها
إذا كان المخاطب أساسا بأحكام القانون الدولي الإنساني هم العسكريون والسياسيون الذين لهم دور فعال في إدارة العمليات العسكرية والحربية أيا كان موقعهم أو انتمائهم للدول أو المنظمات الدولية أو متمردين داخل الدولة أو الثوار في الأقاليم المحتلة، فإن المخاطب في الأصل بأحكام وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان الدولة ممثلة في سلطاتها أو أجهزتها المعنية بإدارة شئون كل من هو داخل إقليم الدولة [23]، أي "سكان الإقليم" بالمفهوم الدستوري للمصطلح.
و*. الاختلاف من حيث آليات مراقبة التنفيذ
يتم مراقبة إعمال أحكام القانون الدولي الإنساني، عبر آليات دولية خاصة تملكها المنظمات والهيئات الحكومية الدولية وغير الحكومية قصد حماية الأشخاص المتضررين من العمليات العسكرية، وما قد ينجم عنها من احتلال حربي، وأهم هذه المنظمات هي اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه التي ارتبط اسمها كحارس أمين للقانون الدولي الإنساني منذ إرهاصاته الأولى، فهي التي تأخذ على عاتقها أداء المهام ذات الصفة الإنسانية، وذلك بحكم التجربة الغنية التي اكتسبتها طوال فترة عملها، هذا إضافة إلى الدور الهام الذي لعبته – كمنظمة غير حكومية إنسانية محايدة تتمتع بمركز قانوني دولي جعل منها أشبه بالمنظمات الحكومية الدولية - بالتدخل بالنزاعات المسلحة من خلال وضع الإجراءات التي تساهم في تفعيل الحماية للمعنيين بها، ومن خلال دورها الميداني بإرسال وتوزيع مواد الإغاثة والطواقم التي تقوم بها [24].
وإلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، هناك آليات خاصة أخرى تنفرد بمراقبة التطبيق كـ "الدولة الحامية" أو بالتحقيق بالانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني هذه المهمة التي أوكلها واضعوا البروتوكول الإضافي الأول، وعبر المادة 90 منه "للجنة الدولية لتقصي الحقائق"، وكما ينظر الكثير من شراح القانون الدولي الإنساني بنوع من التفاؤل لدورا محتملا وكبير للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة بعد دخول نظام روما حيز النفاذ في عام 2001، مما نستنتج منه أن طبيعة هذه الآليات تكون جزء منها وقائية، وفي الجزء الأخرى تكون ذا طبيعة قمعية أو ردعية.
أما في القانون الدولي لحقوق الإنسان فقد حرص المجتمع الدولي على إقرار وسائل وآليات دولية لحماية حقوق الإنسان، وذلك إلى جانب وسائل الحماية الداخلية المقررة بموجب القانون الوطني للدول - والتي غالبا ما اتسمت بالقصور- وعليه فقد ضمنت الاتفاقيات الدولية والإقليمية آليات لمراقبة مدى احترام الدول المختلفة للالتزامات التي تفرضها الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، فوفقا لما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة في المادتين 2/62 و68 بأن يلعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة ومختلف هيئاته الفرعية دورا مهم في مجال حقوق الإنسان، وفي سبيل القيام بالمهام الموكلة إليه شكل المجلس المذكور أعلاه كلا من اللجان التالية: لجنة حقوق الإنسان واللجنة الخاصة بوضع المرأة واللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، هذه اللجان التي تتولى بصفة عامة دراسة التقارير الدورية المرسلة إليها من الدولة، إضافة إلى دراسة الشكاوى وقد اكتسبت هذه الآليات في عالمنا اليوم فعالية كبرى حيث أصبح احترام حقوق الإنسان أمرا يشبه لحد بعيد الشرط الجوهري والأساسي لقبول الدولة في المحيط الدولي.
ويبقى لنا أن نذكر قبل الانتقال لدراسة النقطة الثالثة من هذا المقال، أن هناك وحسب إطلاعنا المحدود نجد أن هناك شاهد دوليا واحد لا يربط بين القانونين من الناحية العملية، ويتمثل في "أحدث دليل مرجعي للقانون الدولي الإنساني" هذا الذي لا يشير مطلقا إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ولكن مع إقرار كل المؤلفات القانونية بوجود هذه الاختلافات الظاهرة بين القانونين، إلا أن هناك جزء من هذه المؤلفات استطاعت أن تقدم ضوابط وخطوات عريضة تمهيدية تساعد على ضبط وترسيخ العلاقة التكاملية بين القانونين، وعليه يبقى السؤال مطروح كيف يكون ذلك؟ وهذا ما سنعرفه في المحور التالي:
ثالثا: الضوابط والخطوات العريضة اللازمة لإزالة التعارض الظاهر بين القانونين
من منطلق الحاجة الماسة للتكامل بين القانونين، كان لابد من العمل على إزالة أي تعارض ظاهر بينهما، مع المحافظة على استقلالية كلا منهما باعتبارهما فرعين مستقلين للقانون الدولي العام، وبناء على هذا المنطق قدم الأستاذين توم هادن و كولين هارفي طريقة جذابة لإزالة هذا التعارض، سوف نعمل على إعادة صياغتها على الوجه التالي:
أ. السلسلة المتصلة بدءا من الوضع الطبيعي للدول إلى النزاع المسلح الكامل
لقد انطلق الأستاذين توم هادن و كولين هارفي من أن سر تحقيق دمج ناجح (أو تقريب) لكلا من فرعي القانون الدولي، يكمن بالاعتراف بالنتائج القانونية للتحرك على امتداد السلسلة الواقعية المتصلة بدءا من الوضع الطبيعي لحياة الدول إلى النزاع المسلح [25].
فتنطبق القواعد العادية للقانون الدولي لحقوق الإنسان بوضوح على الأوضاع الطبيعية للدول، هذه القواعد التي يتمتع بها المجموع الأكبر من سكان الدول بحقوقهم مع مراعاة إعلان حالة الطوارئ [26]، هذه التي إذا أعلنت تتخلى الدولة عن بعض ما التزمت به بشرط أن يتناسب هذا التخلي مع درجة التهديد الموجهة لدولة، وعندما يزداد حجم هذه القلاقل والاضطرابات والتوترات الداخلية التي تشكل نوعا من أعمال العنف des actez de violence، ويتحول هذا العنف في أغلب الحالات إلى نزاع مسلح داخلي تطبق عليه أحكام المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 التي تفرض التزامات أساسية تتشابه إلى حد بعيد مع الحقوق غير القابلة للانتقاص المعروفة في الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان، فإذا ما تصاعد النزاع الداخلي المسلح بحيث وصل إلى وضع تسيطر فيه قوات نظامية (أو يأخذ وصفها) من كلا الطرفين على قسم من الأراضي الوطنية، تطبق آنذاك الأحكام الواردة في البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 الملحق
باتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949.
بالموازاة مع الإقرار بضرورة تطبيق القانون الدولي الإنساني على النزاعات المسلحة غير الدولية، فإن هناك إقرار بتطبيق كافة أحكام وقواعد القانون الدولي الإنساني على النزاعات المسلحة
الدولية وحروب التحرير الوطني، من خلال تطبيق اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق بها.
وهنا نستطيع تصور مدى تطبيق كلا من القانونين بدءا من الحالة الطبيعية لمجتمع الدولة مرورا بدرجة القلاقل انتهاء إلى النزاع المسلح، مما يدل على وجود علاقة تكاملية بين القانونين نزيد من توضيح جوانبها المتعددة فيما سيأتي شرحه من فقرات.
ب. محظورات مطلقة
كما نعلم أن هناك عدد محدد من الحقوق أو المحظورات المطلقة التي تنطبق على كل الظروف، وآيا كانت حدة الأزمة أو النزاع، وتكتسب هذه الحقوق – التي يشار إليها على أنها حقوق غير قابلة للانتقاص- صفتها المطلقة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولما كان القانون الدولي الإنساني لا يتضمن أي حكم بشأن الانتقاص، فإن الحقوق و المحظورات تصح عامة من الناحية الفعلية عن طريق إدراجها الصريح في اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، وأوضح مثال على ذلك هو حظر التعذيب وحظر المعاملة غير الإنسانية أو المهينة أو العقاب، فهي حقوق غير قابلة للانتقاص في أي الظروف كانت سلم أو حرب.
وفي هذا الصدد هناك مجال لمزيد من التنسيق بين القانونين بصياغة هذه المحظورات المطلقة، فيمكن للقانون الدولي لحقوق الإنسان الاعتماد على صياغات أكثر صرامة وتحديد مثل تلك التي جاءت في قائمة المحظورات بالمادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف، أما في القانون الدولي الإنساني فيكون المطلب الرئيسي هو النص بصراحة ووضوح على أن هذه الحقوق والمحظورات المطلقة تنطبق على جميع الأشخاص وفي جميع الظروف، وليس على مجرد الأشخاص المتمتعين بالحماية في ظل المعايير المعقدة التي تحدد الأشخاص المحميين [27]، وفي ظل حقيقة صعوبة التمييز بين الأشخاص المحميين والأشخاص غير المحميين ، نظرا لصعوبة التي تكتنف التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين [28].
ج. الحق في الحياة
رغم وجود معايير متعارضة بين القانونين في حمايتهما للحق في الحياة، إلا أن هذا الأمر يمكن معه إيجاد بدايات للتوفيق بين هذه المعايير في ضوء النقاط التالية:
- لقد ذكرنا سابقا حقيقة مؤداها أن الحق في الحياة ليس حقا مطلقا في القانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث أنه يخضع للحق في استخدام القوة القاتلة في الإعدامات القانونية أو الدفاع عن النفس، مما يقرب هذا المعيار مع معيار اعتراف القانون الدولي الإنساني بحق المقاتل قتل المقاتل الآخر.
- وما قد يساعد أيضا من تضييق الهوة بين المعايير المتعارضة بين القانونين في هذه النقطة، الافتراض الوارد في القانون الدولي لحقوق الإنسان بأن الحرب لا يمكن في الأصل أن تكون مشروعة، وبين قبول القانون الدولي الإنساني الحرب أو النزاع المسلح كحقيقة موضوعية يجب معالجتها بصرف النظر عن أسبابها، مما يترتب عليه اعتماد المحاربين عند ممارستهم للقتل على معايير التهديد المباشر لحياتهم وليس على معيار النزاع بحد ذاته.
- وما قد يساعد على إعادة صياغة مدمجة بين هذه المعايير المختلفة اعتبار المسئولين عن بدء المعارك أو تخطيطها في أي الجانبين المتصارعين قد تصرفوا بصورة تخرق معايير حقوق الإنسان.