بعض إشكاليات القانون الدولي المعاصر
في فتوى المحكمة الدولية في قضية الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية
الدكتور الدين الجيلالي محمد بوزيد
أستاذ القانون العام المشارك
كلية العلوم الإدارية جامعة الملك سعود
مقدمة
يعتبر ميثاق الأمم المتحدة ،الذي توج مؤتمر سان فرانسيسكو ، بعد الحرب العالمية الأولى سنة ،1945 ، أهم وثيقة أسست للتنظيم الدولي المعاصر .ورغم مرور ما يقارب الستة عقود إلا أنه لا زال يثير بعض الاختلاف حول تفسير بعض نصوصه. و قد أعادت الفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية، مؤخرا، في قضية الجدار العازل سنة 2004 ميلادي ، طرح بعض هذه الإشكاليات ،و لا يمكن فهم هذا الوضع إلا في ضوء السياق التاريخي ،فميثاق الأمم المتحدة هو وثيقة سياسية قبل أن يكون مصدر لأحكام قانونية ، لعبت الاعتبارات السياسية دورا بارزا في بلورة أحكامه ، و بدت آثارها واضحة في صياغة أحكام الميثاق ،من ذلك أن العلاقة بين مجلس الأمن و الجمعية العامة نسجت على ضوء رغبة الدول الكبرى المتنصرة في الحرب ، و على رأسها دول الحلفاء، في إبقاء سيطرتها على إدارة العلاقة الدولية من خلال مجلس الأمن، و هو الجهاز الذي تسيطر عليه هذه الدول عن طريق تمتعها بحق النقض (الفيتو ) و تفرد المجلس بسلطة إصدار قرارات ملزمة و قابلة للتنفيذ بواسطة التدابير العسكرية عند اللزوم ، و حرمان الجمعية العامة للأمم المتحدة ،التي تضم كل الدول المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة ،من إصدار قرارات ملزمة تتعلق بالعلاقات الدولية و منعها من إصدار و لو توصية في موضوع أو وضع يدرسه مجلس الأمن ،وتم تنظيم المحكمة الدولية بحيث لا ينعقد لها الاختصاص بنظر المنازعات الدولية إلا بناء على رغبة الأطراف المتنازعة ،وفق الصيغ التي تضمنها نظامها الأساسي ،و عليها أن تمتنع عن إصدار الفتوى فيما يسمونه" المسائل غير القانونية " أو السياسية كما عرفت ،و هو الأمر الذي ورط المحكمة،في كثير من الأحيان ، في الرد على الدفوع التي تثار في كل مناسبة بعدم اختصاصها و أخذ كثيرا من وقت و جهود المحكمة . كما جردت فتوى المحكمة من أية قوة إلزامية و قصر طلبها على أجهزة المنظمة الدولية (الجمعية العامة و مجلس الأمن أو وكالات الأمم المتحدة المتخصصة ).
سنحاول في هذه القراءة التعرض لثلاث إشكاليات واجهت المحكمة في فتوى الجدار العازل و هي :
- هل تملك المحكمة سلطة تقديرية في إصدارا لفتوى ؟
- تحديد العلاقة بين الجمعية العامة و مجلس الأمن في المسائل المتعلقة بالأمن الدولي
- أثر طبيعة النزاع على اختصاص المحكمة الاستشاري
هذه الإشكاليات الثلاثة التي واجهت المحكمة في رأيها الاستشاري، حاولت بحثها في ثلاثة مباحث ،حيث خصصت المبحث الأول لبيان السلطة التقديرية للمحكمة في إصدار الفتوى و المبحث الثاني لبيان علاقة الجمعية العامة بمجلس الأمن و تقاطع الاختصاصات في مسألة حفظ السلم و الأمن الدولي على ضوء الفتوى .
و المبحث الثالث حللت فيه إشكالية التفرقة بين النزاع القانوني و السياسي و أثر ذلك على اختصاص المحكمة بإصدار الفتوى .
و خاتمة بينت فيها خلاصة الدراسات و أهم النتائج المستخلصة .
و الله ولي التوفيق
المبحث الأول
وظيفة الإفتاء و السلطة التقديرية للمحكمة
تعتبر محكمة العدل الدولية الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة ،و هي تضطلع بوظيفتين أساسيتين هما الفصل في القضايا أو المنازعات المطروحة عليها ، وفقا لأحكام الميثاق و النظام الداخلي للمحكمة، وإصدار فتاوى أو أراء استشارية عندما يطلب منها ذلك من هيئة مرخص لها وفق أحكام الميثاق ،جاء في المادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة "للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية بناء على طلب أية هيئة رخص لها ميثاق الأمم المتحدة باستقصائها ، أو حصل الترخيص لها بذلك طبقا لأحكام الميثاق المذكور ."
و التساؤل الذي يثيره هذا النص هو هل يخول النص المذكور المحكمة سلطة تقديرية في إصدار الفتوى أو الامتناع عن ذلك ؟
لقد فسر بعض الفقه أن النص المذكور يخول المحكمة ممارسة سلطة تقديرية في إصدار الفتوى أو الامتناع عنها ،بل أن المحكمة من حقها الامتناع عن الفتوى حتى مع توفر شروطها و هي الشروط المنصوص عليها في المادة 65 من نظامها الأساسي .فما هي موجبات إصدار الفتوى و شروطها و مسوغات الامتناع أو الرفض ؟
الحقيقة أنه ينبغي فهم هذه الإشكالية على ضوء وظيفة المنظمة الدولية بجميع أجهزتها و منها المحكمة ،فالوظيفة الأساسية التي أكد عليها الميثاق هي المحافظة على السلم و الأمن الدوليين ، و كان هذا هو الباعث الأساسي على التنظيم الدولي. و إذا كان مجلس الأمن يضطلع بدور رئيسي ،نظرا للصلاحيات التي منحت له بمقتضى الفصل السابع خاصة ،فإن ذلك لا يحول دون مساهمة أجهزة المنظمة الأخرى في هذه المهمة سواء المحكمة أو الجمعية العامة .فحسب نص المادة الأولى من الميثاق
" مقاصد الأمم المتحدة هي :
1- حفظ السلم و الأمن الدولي، و تحقيقا لهذه الغاية تحدد الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها ،ولقمع العدوان و غيرها من وجوه الإخلال بالسلم ،و تتذرع بالوسائل السلمية ،وفقا لمبادئ العدل و القانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تودي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها ......
4- جعل هذه الهيئة مرجعا لتنسيق أعمال الأمم و توجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة ."
و على هذا الأساس فإن نشاط المحكمة، سواء بإصدار الأحكام القضائية أو اتخاذ التدابير التحفظية ،أو الإفتاء ، يجب أن يشكل مساهمة في نشاط المنظمة الدولية .
و من حيث المبدأ لا يجوز للمحكمة أن تمتنع عن إصدار الفتوى نظرا لمسؤولياتها كجهاز قضائي رئيسي للمنظمة الدولية (المادة 92 من الميثاق ) و لا يمكن تصور ذلك إلا إذا كانت الفتوى المطلوبة غير ذات صلة بوظيفة المحكمة أو لا تؤدي إلى تحقيق الغايات التي أشار إليها الميثاق .
و الثابت في تاريخ المحكمة الحالية أنه، و في إطار ممارسة سلطتها التقديرية ،لم يسبق لها و أن رفضت الإفتاء ،على أنه ينبغي التفرقة بين الرفض المبني على عدم الاختصاص وذلك المبني على السلطة التقديرية ، و قد حصل أن رفضت المحكمة إصدار الفتوى في الطلب الذي قدمته المنظمة الدولية للصحة في موضوع تقدير مشروعية استعمال الأسلحة النووية في النزاعات المسلحة من طرف دولة عضو في الأمم المتحدة سنة 1996 ،و كان الرفض مبنيا على عدم الاختصاص و ليس بناء على تقدير الملائمة .و قد كانت مناسبة بينت فيها المحكمة شروط الاختصاص بإصدار الفتوى طبقا لنص المادة 65 من نظامها الأساسي " للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية بناء على طلب أية هيئة رخص لها ميثاق الأمم المتحدة باستقصائها أو حصل الترخيص بذلك طبقا لأحكام الميثاق المذكور ." و طبقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة 96 من الميثاق " 2- و لسائر فروع الهيئة و الوكالات المختصة المرتبطة بها ممن يجوز أن تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت ،أن تطلب أيضا من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لهل من المسائل القانونية الداخلة في نطاق أعمالها ." و من النصين المذكورين استنبطت المحكمة ثلاثة شروط لاختصاصها بالفتوى في المسائل الواردة إليها من الهيئات المختصة و هي :
1- يجب أن تكون الهيئة طالبة الفتوى مرخص لها بذلك طبق لأحكام الميثاق
2- يجب أن ترد الفتوى على مسألة قانونية
3- يجب أن يتعلق موضوع الفتوى بالأنشطة الداخلة في نطاق أعمال الهيئة
و بالنسبة لطب المنظمة العالمية للصحة التي تم رفض الطلب توفر الشرطان الأولان،فالمنظمة المذكورة مرخص لها من الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على الفقرة الثانية من المادة 76 من النظام الأساسي للمنظمة و الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاق المبرم بين الجمعية العامة و المنظمة سنة 1948 حيث جاء في هذا النص الأخير "الجمعية العامة ترخص للمنظمة العالية للصحة طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية في المسائلة القانونية التي تعترضها في إطار اختصاها ،باستثناء تلك التي تتعلق بالعلاقات المتبادلة بين المنظمة و منظمة الأمم المتحدة و المنظمات المتخصصة الأخرى ."" علما أن الاتفاق المذكور صادقت عليه الجمعية العامة بقرارها في 15/10/1947 (قرار 124(2)).
أما بالنسبة للشرط الثاني أكدت المحكمة أن الأسئلة المطروحة بحيثيات قانونية ،و التي تثير مسائل تتعلق بالقانون الدولي ،يمكن بطبيعة الحال،أن تتلقى ردا مبني على القانون .
و السؤال المطروح من المنظمة العالمية للصحة يطرح إشكالية قانونية فهو يطلب الإجابة على السؤال التالي :نظرا لآثار الأسلحة النووية على الصحة و البيئة ،هل يشكل استعمالها في حرب أو أي نزاع مسلح من طرف دولة ،خرقا لالتزاماتها في نظر القانون الدولي بما في ذلك النظام الأساسي(دستور ) للمنظمة العالمية للصحة ؟"
و أكدت المحكمة أن السؤال قانوني و هذا لا يمنع من وجود خلفيات أو بواعث سياسية ،علما أن التمييز بين النزاع السياسي و القانوني ليس بالأمر السهل كما سنبين لاحقا في هذا البحث.
أما بالنسبة للشرط الثالث، الذي تخلف في قضية منظمة الصحة العالمية ،و أدى إلى رفض طلب الإفتاء، هو عدم تعلق موضوع الفتوى بنشاط المنظمة .فحسب نص المادة 96 الفقرة الثانية من الميثاق ،ترى المحكمة أن هذا الشرط الثالث و الذي يتعلق عليه اختصاص المحكمة بإصدار الفتوى لا يكمن الجزم بتوفره، فنصوص الاتفاقية المنشئة للمنظمة و خاصة دستورها، لا تعطي للمنظمة حق تقدير مشروعية أي نشاط مضر بالصحة بل أن النصوص تؤكد على أن المنظمة تعمل على" ترقية صحة الشعوب إلى أعلى مستوى ممكن". و يمكن فهم النص على أنه يعطي للمنظمة الحق في معالجة أثار استعمال الأسلحة النووية و اتخاذ كل الإجراءات ت الوقائية اللازمة لحماية صحة السكان في حالة استعمال الأسلحة المذكورة .و السؤال المطروح على المحكمة لا يرد على تقدير مدى آثار الأسلحة النووية على الصحة ،و لو طرح السؤال بهذا الشكل لخرج أيضا من اختصاص المحكمة لأنه ليس سؤالا قانونيا و بالتالي لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشروط التي حددتها المحكمة لاختصاصها بالفتوى ، فالسؤال يرد على مدى مشروعية استعمال هذه الأسلحة من طرف ا لدول نظرا لآثارها على البيئة و الصحة ،و بهذه الصيغة فهو سؤال قانوني لكنه يخرج في هذه المرة من اختصاص المنظمة العالمية للصحة ،فاستعمال الأسلحة النووية بطرية مشروعة أو غير مشروعة تبقى آثارها واحدة بالنسبة للمنظمة و بالتالي فالسؤال لا يدخل في إطار عمل المنظمة فوظيفتها هي ترقية الصحة العالمية بالوسائل الوقائية و معالجة الآثار عند اللزوم و ليس تقدير مشروعية الوسائل المؤذية للصحة البشرية.
و بناء على ما سبق ، انتهت المحكمة أنه لم تتوفر الشروط الكاملة حتى ينعقد لها الاختصاص بإصدار الفتوى .
و بعد أن بينا شروط إصدار الفتوى نتعرض إلى إشكالية التي أشرنا إليها في المقدمة،و التي يثيرها نص المادة 65 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ،وهي هل يمكن للمحكمة أن تمتنع عن إصدار الفتوى أو بعبارة أخرى هل تتمتع المحكمة بسلطة تقديرية في الامتناع أو إصدار الفتوى ؟.
لقد كانت هناك اختلافات في تفسير هذا النص فالبعض يرى ،و بناء على ظاهر النص ،بأن المحكمة تتمتع بهذه السلطة و لكن لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار وظيفة المحكمة باعتبارها أحد فروع المنظمة الدولية و قد أكدت هذا التفسير محكمة العدل الدولية نفسها حيث أكدت المحكمة في مناسبات عديدة أن الفقرة الأولى من نظامها الأساسي و التي تنص على أنه "يمكن للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية ..."يجب تفسيرها على أنها تقر للمحكمة بالسلطة التقديرية في رفض إعطاء الفتوى حتى مع توفر شروط إصدارها على النحو الذي سبق بيانه ،و لكن ينبغي أيضا التنبيه على أن إصدار الفتوى يشكل مساهمة في نشاط المنظمة الدولية .و من حيث المبدأ لا يمكنها رفض الفتوى و نظرا لمسؤولياتها كجهاز قضائي (مفتي ) رئيسي للمنظمة الدولية (المادة 92 من الميثاق )لا يمكنها أن ترفض إصدار الفتوى و يجب أن تكون هناك مبررات حاسمة حتى تفعل ذلك ،كأن يكون النزاع ليس من طبيعة قانونية أو مسألة واقع يمكن أن تحال عليها للفصل فيها كمنازعة .
و هناك أمثلة كثيرة أصدرت فيها المحكمة فتوى في موضوعات محل نزاع بين دول من ذلك :
- تفسير اتفاقيات السلام المبرمة بين بلغاريا و هنغاري (الرأي الاستشاري للمحكمة 1950)
- بعض نفقات الأمم المتحدة (الرأي الاستشاري 1962)
- الخلاف حول الحصانة من الاختصاص القضائي للمقرر الخاص للجنة الدولية لحقوق الإنسان –(الرأي الاستشاري 1999).
و الثابت في تاريخ المحكمة أنها ،و في إطار ممارسة سلطتها التقديرية ،لم يسبق لها و أن رفضت الإفتاء ،على أنه تجب التفرقة بين الرفض المبني على عدم الاختصاص، كما بينا أعلاه ،و الامتناع المبني على ممارسة السلطة التقديرية، و الذي لم يثبت أن المحكمة مارسته ، وعدم توفر الشروط الموضوعية ،أي الحقائق و الأدلة القانونية التي تستند إليها الفتوى،إذ لا يمكنها أن تصدر رأيا دونما سند قانوني ،و هذا أمر استقر عليه اجتهاد القضاء الدولي . ففي قضية الصحراء الغربية أوضحت المحكمة أن ما هو حاسم في هذه الظروف هو "ما إذا كان معروضا على المحكمة معلومات و أدلة كافية تمكنها من التوصل إلى نتيجة قضائية بشأن أي مسائل متنازع عليها تتعلق بالحقائق و البت فيها ضروري للمحكمة لكي تعطي رأيا في ظروف تتوافق مع شخصيتها القانونية ".
و نفس الموقف تبنته محكمة العدل الدولية الدائمة،قبل ذلك ،في قضية النظام القانوني لكارليا الشرقية سنة 1923 حيث قررت محكمة العدل الدولية الدائمة أن تمتنع عن إعطاء رأي لأسباب منها أن المسألة المطروحة "أثارت مسألة تتعلق بالحقائق لم يكن ممكنا تفسيرها من دون الاستماع إلى كلا الطرفين " .ذلك أن السؤال المطروح كانت له علاقة مباشرة بنزاع قائم بين دولتين إحداهما ليست عضو في عصبة الأمم، و لم تنضم إلى النظام الأساسي للمحكمة الدائمة و كانت ترفض الإجراءات و السير في الدعوى بأي طريقة كانت ،و قدرت المحكمة أن إصدار الفتوى في النزاع المذكور غير ممكن سبب عدم توفر الحقائق القانونية التي ينبغي أن ينبني عليها الرأي الاستشاري المزمع إعطاؤه
و أنه للمحكمة أن تتأكد في كل مرة يطلب منها الفتوى من ملائمة ممارسة سلطتها القضائية على أساس معيار "الأسباب الحاسمة ".
و في قضية الجدار العازل التي نحن بصددها قيل أنه كان على المحكمة أن ترفض إصدار الفتوى لأنها متعلقة بنزاع بين إسرائيل و فلسطين و أن إسرائيل لم تقبل باختصاص المحكمة ،كما أن السؤال كان مرتبطا بموضوع آخر و هو الإرهاب الدولي و أمن المستعمرات و القدس و موضوعات أخرى متفرعة ،و أن إسرائيل كانت ترفض دائما أن تنظر المحكمة هذا النزاع بأي شكل و لم تقبل الحلول الإلزامية (القضائية) و تؤكد على أن الأطراف توصلوا،في مناسبات عديد، إلى ضرورة حل النزاع بطرق المفاوضات و يمكن التحكيم في حالة اتفاق الأطراف على ذلك. و بناء على ما سبق كان على المحكمة رفض إعطاء الفتوى معتمدة على سابقة محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية كاريليا الشرقية .
غير أن المحكمة رفضت هذه الدفوع كلها و أكدت أن مسألة قبول اختصاص المحكمة لا علاقة له ولا يؤثر على اختصاصها بإصدار الفتوى ،بعكس اختصاصها بإصدار الأحكام القضائية الذي يتطلب موافقة أطراف النزاع بالأشكال الثلاثة التي حددها النظام الأساسي للمحكمة.
و أضافت المحكمة التأكيد على أن الفتوى لا تلزم أحدا ، سواء أطرف النزاع أو الدول الأخرى، و عليه لا يمكن لأي طرف عضو أو غير عضو في الأمم المتحدة أن يمنع المحكمة من إصدار فتوى طلبتها الجمعية العامة في ممارسة نشاطها ،و التي رأت المحكمة ملاءمتها. كما أن الرأي الاستشاري صادر لصالح الهيئة خولها الميثاق طلبها و ليس في مواجهة الدول، مما يجعل رد المحكمة بإصدار الفتوى من مستلزمات وظيفتها و يدخل في سياق عملها كجهاز في المنظمة الدولية ،و بالتالي ليس لها أن ترفض .
و لكن كيف نفسر قول المحكمة في رأيها الاستشاري في قضية الصحراء الغربية "أن تخلف أو عدم موافقة دولة معنية يمكن أن يخرج نشاط المحكمة في إصدار الفتوى ،في بعض الحالات ،عن طبيعته القضائية "؟.
تفسير ذلك في نظر المحكمة أنه إذا تبين من الوقائع أن إصدار الفتوى قد يقلب المبدأ القاضي بأنه لا يمكن إجبار الدولة على إخضاع نزاع ما للحل القضائي إلا برضاها .
بالرجوع إلى تعليل المحكمة نرى أنها عللت ذلك بأنه يوجد فعلا جدل قانوني،و لكن الجدل ثار أثناء مناقشات الجمعية العامة للموضوع و القضايا التي تعالجها الجمعية ،و هذا الجدل لم ينشأ مستقلا،في إطار العلاقات الثنائية ,كما أن إصدار الفتوى في نزاع كهذا يمكن أن يفسر على أنه انحياز لموقف أحد الأطراف و بالتالي محاولة استباق الحكم في النزاع و هو الأمر الذي قد يرفضه أحد أطراف النزاع ،إذا أن رأي المحكمة يكون بمثابة حكم .
أما في قضية الجدار العازل أضافت المحكمة مسألة أخرى و هي أن القضية ليست مجرد نزاع ثنائي بين فلسطين و إسرائيل ،و لكنه يتعلق بصميم اختصاص الأمم المتحدة في الحفاظ على السلم و الأمن الدوليين و عليه ينبغي النظر إلى موضوع الجدار العازل على أنه يهم الأمم المتحدة مباشرة .وبناء على ذلك يحق لأجهزة الأمم المتحدة صاحبة الاختصاص ،( الجمعية العامة و مجلس الأمن )،عرضه على المحكمة لطلب الرأي الاستشاري دون ما حاجة لموافقة أطراف النزاع ،وعليه يكون اعتراض أطراف النزاع غير مؤسس.و ينبني على هذا الاتجاه في نظرنا أنه ينبغي التمييز بين المنازعات التي تتعلق بشأن خاص بين الدول كنزاعات الحدود مثلا و التي لا تهم إلا الدول الأطراف ،و هذا النوع من النزاعات لا يمكن للمحكمة أن تفصل فيها إلا بموافقة الأطراف بالصيغ المحددة في النظام الأساسي للمحكمة ،كما أنه لا يمكنها من الناحية الواقعية أن تفتي فيها أيضا لأنها لا تتعلق بأنشطة الأجهزة الأممية،من هذه النزاعات النزاع الإماراتي –الإيراني حول الجزر العربية التي تحتلها إيران ،فلم تعرض القضية على محكمة العدل الدولية لا في شكل نزاع ،بموافقة الأطراف ،أو في شكل رأي استشاري بطلب من الجمعية العامة أو مجلس الأمن، لأن هذه الأجهزة لا ترى في النزاع ما يضر بالسلم الدولي -حتى الآن .
وما يمكن قوله أن المحكمة يمكنها الامتناع عن إصدار الفتوى في النزاعات الثنائية التي يرفض المجتمع الدولي التدخل فيها و يترك ذلك لتقدير الأطراف في اختيار الوسيلة الملائمة لحل النزاع إلا إذا أدى استمرار النزاع أو حدته إلى المساس بالأمن و السلم الدولي ففي هذه الحالة على الهيئات الدولية ،خاصة مجلس الأمن و الجمعية العامة، الاضطلاع بوجباتها في الحفاظ على السلم و الأمن الدولي ،مما قد يستدعى معرفة الرأي القانون في النزاع قيل الإقدام على اتخاذ أي قرار أو تدابير مؤقتة .
أما النوع الثاني من المنازعات فهي تلك التي تعني الأمم المتحدة أي تلك المتعلقة بالسلم و الأمن الدوليين ،فهذا لا يتوفق إصدار الرأي فيه على موافقة أطراف النزاع لأنه ،كما أكدت المحكمة، من صميم اختصاص الأمم المتحدة .ذلك أن استصدار الرأي يقصد به توضيح و معرفة الجوانب القانونية في المسألة حتى يتسنى لأجهزة الأمم المتحدة ،خاصة مجلس الأمن ،اتخاذ القرارات اللازمة و القانونية أيضا .
و الذي يمكن استنتاجه من رأي المحكمة أن الامتناع عن إصدار الفتوى سلطة تقديرية تمارسها المحكمة بناء على معطيات معينة ،لكنها لا نفعل ذلك إلا إذ انعدمت لديها الحقائق و الأدلة الكافية التي ينبني عليها الرأي ،أو كان ذلك يخرجها عن وظيفتها القضائية و يجعلها تمارس السياسة ،و يكون ذلك في حالة ما إذا كانت فتوى المحكمة من شأنها أن تعقد الوضع ،في غياب موافقة أطراف النزاع ،كأن يعيق المفاوضات الجارية بين أطراف النزاع و يعرقل جهود الحلول السياسية التي تفضلها أطراف النزاع ،و أحيانا جهود الأمم المتحدة نفسها كما يحصل حاليا في قضية الصحراء الغربية التي لا زالت الاعتبارات السياسية (الدولية ) تطغى على الاعتبارات القانونية في الموضوع .و قد دفعت بعض الدول في قضية الجدار العازل بدفع مماثل إذ ادعت أن إصدار الفتوى في الموضوع من شأنه أن يعرقل جهود السلام و خاصة مشروع "خارطة الطريق :الذي تبنته أطراف النزاع بمبادرة أمريكية و الذي يفرض على أطراف النزاع التزامات متبادلة خلال كل المراحل و كان على المحكمة أن تمارس سلطتها التقديرية و ترفض إصدار الفتوى واضعة في حسبانها أن الوضع النهائي للنزاع لا يمكن أن يكون إلا تفاوضيا و لا يكمن الوصال إلى هذه الغاية إلا إذا اضطلع أطراف النزاع بمسؤولياتهم في الحفظ على السلم ..
و كان رد المحكمة ،أنها لا تنكر أن خارطة الطريق تشكل إطارا للتفاوض لحل النزاع ،غير أن الآثار التي يمكن أن تتركها الفتوى على مسار التفاوض لا تبدو مسلم بها ،و خاصة أن أطراف النزاع أبدوا مواقف متناقضة و لا يمكن للمحكمة أن تعتبر ذلك عنصرا حاسما لترفض ممارسة اختصاصها في إصدار الفتوى .
المبحث الثالث
طبيعة النزاع
و أثره على اختصاص الإفتاء
لقد كانت مسألة التفرقة بين النزاع السياسي و النزاع القانوني من أهم الدفوع التي لا زالت تثار أمام المحكمة في نزاعات كثيرة ذلك أن الدول كثيرا ما حاولت التملص من الاختصاص الإلزامي للمحكمة أو معارضة إصدار الفتوى ،بإثارة هذا الدفع .و سند ذلك أن الميثاق قصر سلطة المحكمة في الإفتاء و الفصل في النزاعات على المسائل القانونية فقط .جاء في المادة 96 من الميثاق: "لأي من الجمعية العامة و مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل إفتائه في المسائل القانونية. كذلك نص المادة 65 من النظام الأساس للمحكمة التي جاء فيها "للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية بناء على طلب أية هيئة رخص لها ميثاق الأمم المتحدة باستقصائها ،أو حصل الترخيص بذلك طبقا لأحكام الميثاق المذكور ."
و ذهب الميثاق إلى حد محاولة حصر المنازعات القانونية القابلة للحل القضائي فجاء في الفقرة 2 من المادة 36 من النظام الأساسي " "للدول التي هي أطراف في هذا النظام الأساسي أن تصرح في أي وقت بأنها بذات تصريحها هذا و بدون حاجة إلى اتفاق خاص ،تقر للمحكمة بولايتها الجبرية في نظر جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها و بين دولة أخرى تقبل الالتزام نفسه ،متى كانت هذه المنازعات القانونية تتعلق بالمسائل التالية :
(أ ) تفسير معاهدة من المعاهدات
(ب) أية مسألة من مسائل القانون الدولي
(ج ) تحقيق واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقا لالتزام دولي
(د ) نوع التعويض المترتب على خرق التزام دولي و مدى هذا التعويض .
و رغم أن النص السابق جاء بصياغة من شأنها أن تستوعب الكثير من المنازعات، و خاصة الفقرة "ب"،غير أن ذلك لم يكن كافيا ،و بذل الفقه و القضاء جهودا لوضع معيار للتمييز بين النزاع السياسي والقانوني.
وقبل التعرض لمعيار التميز ينبغي التنبيه إلى بعض المسائل :
- النصوص المذكورة أكدت على الطبيعة القانونية للنزاع أو السؤال موضوع الفتوى ،غير أنه ليس هناك ما يمنع المحكمة من النظر في جميع النزاعات و إصدار الأحكام فيها حتى ولو كانت سياسية بشرط موافقة أطراف النزاع فجاء في المادة 36 الفقرة الأولى "تشمل ولاية المحكمة جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون ،كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة أو المعاهدات و الاتفاقات المعمول بها ."
- و على خلاف إصدار الأحكام ليس للمحكمة أن تصدر الفتوى سوى في المسائل القانونية،و عليه ففي حالة النزاعات و طلب الحكم لا حاجة لتمييز بين المنازعات القانونية و السياسية إذا وافق الأطراف على عرض النزاع على المحكمة .
- قد تثار مسألة التمييز بين النزاع السياسي و القانوني حسب أحكام الفقرة الثانية من المادة 36 من النظام الأساسي لأن الأطراف هنا قبلت بالاختصاص الإلزامي(المسبق ) و كثيرا ما تضمن الدول تصريحها بقبول الاختصاص تحفظات تخرج بمقتضاه المنازعات السياسية من اختصاص المحكمة و في هذه الحالة على المحكمة الرد على الدفع بالتأكد من الطابع القانوني للنزاع حتى ينعقد لها الاختصاص و لا شك أن ذلك يتطلب تحديد طبيعة النزاع .
23إن وضع معيار للتفرقة بين المسائل أو المنازعات السياسية و القانونية لم يكن أمرا سهلا و قبل أن نتعرض لموقف المحكمة الدولية في هذا المعيار نتعرض إلى أراء الفقهاء في المسألة.
لقد تضمنت كثير من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحل المنازعات الدولية ،خاصة ميثاق الأمم المتحدة و النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ،التأكيد على ضرورة حل المنازعات القانونية بالطرق القضائية (القضاء و التحكيم )غير أن الإشكالية التي واجهت الفقه و القضاء هي وضع معيار لتفرقة بين أنواع المنازعات الدولية .
لقد حاول الفقه وضع معيار موضوعي للمنازعات الدولية القابلة بطبيعتها للحل القضائي غير أن هذه المحاولات لم تفلح و هو ما أدى بالبعض إلى إنكار التفرقة منهم بعض أنصار المذهب الموضوعي أو ما عرف بمذهب فينا و على رأسهم الأستاذان كلسن و كنز (Kelsen et Kunz) حيث يرى هؤلاء أ ن أي نزاع بين الدول يعتبر نزاع قانوني طالما تعلق بإحدى قواعد القانون الدولي علما أن هذه القواعد ليست مقصرة على العرف و المعاهدات أو الاتفاقيات الجماعية بل يمكن أن يكون مصدرها الاتفاقيات الثنائية و مبادئ القانون الدولي.و رغم أن القضاء الدولي الحديث يميل إلى هذا الرأي إلا التفرقة بقيت قائمة تجد سندها في النصوص القانونية المختلفة السالفة الذكر و هو الأمر الذي استدعى البحث عن معيار لهذه التفرقة .
و تكمن أهمية التفرقة في تقرير اختصاص المحكمة الدولية خاصة في مسألة الإفتاء ثم في تحديد النظام القانوني لكل نوع ،فالمنازعات القانونية هي التي تقبل الحل القضائي بينما المنازعات السياسية تناسبها الحلول السياسية (المفاوضات ،الوساطة ،المساعي الحميدة ).
أولا: الفقه :
لقد حاول الفقه وضع معيار للتفرقة بين المنازعة القانونية و السياسية لكن ذلك لم يكن أمرا سهلا و عمد بعض الأخر إلى تحديد طبيعة المنازعة القانونية أو المنازعات القابلة للحل القضائي (Differends justiciables ) وتلك الغير القابلة للحل القضائي (السياسية) و قيل في هذا الصدد بعدة تعاريف :
عرف قاموس القانون الدولي العام النزاع القانوني بأنه "الذي يختلف فيه الأطراف حول تطبيق أو تفسير قانون قائم أما النزاع السياسي فهو النزاع الذي يطالب فيه الأطراف بتغيير حالة واقعية أو قانونية قائمة، أو المطالبة بتغير النظام القانوني القائم استناد إلى الملائمة السياسية" .
- المنازعة القانونية هي التي تتعلق بحق من الحقوق بينما المنازعة السياسية هي تكون حول مصلحة حيوية .
و الحقيقة أن هذا التعريف ينطلق من مفهوم القانون الداخلي للحق الذي هو مصلحة يحميها القانون و عليه يستند صاحبه إلى القانون للمطالبة بالحماية القانونية بينما المصلحة التي لا يحميها القانون فليست حقا بالمفهوم الفني للحق
- المنازعة القانونية هي التي يختلف الأطراف فيها على مسألة قانونية ،أو تلك التي تتعلق بحق يدعيه أحد الأطراف و ينازعه فيه الآخر .أو هي المنازعة التي تخضع لقاعدة ثابتة من قواعد القانون الدولي .
و في تقديرنا أن تعريف قاموس القانون الدولي السالف الذكر أكثر التعاريف المعتمدة فالمنازعة القانونية هي التي يتحاكم فيها الأطراف إلى قانون قائم بينما المنازعة السياسية هي التي يطالب فيها أحد الأطراف بتغير نظام قانوني قائم بناء على مصلحة يقدرها الأطراف .فمثلا النزاع العربي الإسرائيلي أصبح نزاعا سياسيا بعد ما صدر قرار تقسيم فلسطين و أقر بالوجود الإسرائيلي في فلسطين في الأراضي ما قبل 1948 ،فالعرب يطالبون (كانوا ) بتعديل النظام القانوني (قرار التقسيم ) الذي أعطى الشرعية الدولية للوجود الإسرائيلي .أما النزاع العربي الإسرائيلي على الأراضي التي تم احتلالها بعد 48 فهو نزاع قانوني يستند إلى قرارات الشرعية الدولية التي اعتبرت إسرائيل دولة محتلة عليها الالتزام بالشرعية الدولية بما في ذلك تقرير المصير للشعب الفلسطيني و احترام المواثيق الدولية و أهمها الميثاق الأمم المتحدة و اتفاقيات جنيف .
و الذي نراها أن مسألة التفرقة بين النزاع القانوني و السياسي مسألة مفتعلة ،تلجأ إليها الدول للتهرب من حكم القضاء ،الذي قد يلزمها بأشياء لا ترغب فيها، و تفضل الحل السياسي الذي يترك هامشا للمناورة للحصول على تنازلات من الطرف الثاني. كما أن التفرقة لم ترد في النصوص التي سبقت الإشارة إليها فالنزاع الواحد يمكن أن يكون قانونيا و سياسيا في نفس الوقت أو تكون له خلفيات أو بواعث سياسية ثم أي خلاف مهما كان موضوعه لا بد أن يجد له حلا قانونيا إذا رغب الأطراف في ذلك لأن القاضي لم يعدم أساسا قانونيا فهو سيطبق القانون بمفهومه الواسع بما في ذلك اجتهاد القاضي أو بتطبيقه مبادئ العدل و الإنصاف حسب نص المادة 38 الفقرة (د) من نظم محكمة العدل الدولية. و الدليل ورد في الميثاق نفسه حيث خول المحكمة سلطة الفصل في جميع القضايا التي يعرضها عليها الأطراف و لم يفرق الميثاق بين النزاع القانوني و السياسي (المادة 36).كما أن القضاء الدولي رفض دائما هذه التفرقة بطريقة غير مباشرة حيث كان لا يتردد في إضفاء الطابع القانوني على النزاع المطروح.
ثانيا :موقف القضاء (محكمة العدل الدولية )
لم يكن القضاء أكثر توفيقا من الفقه في وضع معيار للمنازعة القانونية والسياسية ،و بالرجوع إلى قضاء محكمة العدل الدولية نجد أنها حاولت أن تعطي بعض التوضيحات في المسألة، و لم تضع معيارا محددا.
ففي قضية الجدار العازل ،حيث دفعت إسرائيل بأن موضوع الفتوى يتعلق بمسألة سياسية و كان على المحكمة أن تنأ بنفسها عن الإفتاء فيها.و استند الدفع إلى أنه لا يمكن الجزم بالطابع القانوني للسؤال المطروح على المحكمة و ذلك لثلاثة أسباب و هي :
1- أن الطلب يتضمن السؤال عن الآثار في القانون لبناء الجدار و هذا يحتمل قراءتين أو تأولين و كلاهما من المفروض أن يؤدي بالمحكمة إلى عدم قبول الإفتاء، فمن جهة يمكن قراءة السؤال على أنه دعوة (invitation ) للمحكمة لكي تلاحظ عدم شرعية بناء الجدار العازل ثم بعد ذلك تعطي رأيها في الآثار القانونية لتلك اللامشروعية، و في هذه الحالة على المحكمة أن ترفض لعدة أسباب أهمها مسألة الاختصاص و الملائمة ،ففي ما يتعلق بالاختصاص كان على الجمعية العامة أن تطلب تحديدا من المحكمة تقدير مدى مشروعية بناء الجدار فقط بينما الطلب يتكلم عن الآثار في القانون لبناء الجدار .،بما يعني أن السؤال لم يكن قانونيا بالمعنى الدقيق .
2- القراءة ثانية للسؤال المطروح على المحكمة تعني أنه على المحكمة أن تفترض (presume ) عدم مشروعية بناء الجدار لتنظر في مسألة الآثار القانونية لعدم المشروعية المفترضة ،و في هذه الحالة كان على المحكمة أن ترفض أيضا لأنه لا يمكنها الإجابة لأن السؤال كان مبني على فرضية غير مسلم بها و هي عدم المشروعية .
3- كما أن السؤال في حد ذاته ينقصه الوضوح و الدقة ،فالآثار القانونية المطلوب تحديدها،و لم يوضح هل هي لما يتعلق بالجمعية العامة أو أجهزة الأمم المتحدة أو أعضاء الأمم المتحدة أو إسرائيل أو فلسطين أو كيانات أخرى .
و بناء على ما تقد لا يمكن القول بأنه سؤال قانوني .
و الحقيقة كما ذكرنا في المقدمة ،كثيرا ما تلجأ الدول ،و حتى تتفادى اختصاص المحكمة ، إلى الدفع بالطابع السياسي للسؤال أو موضوع الفتوى أو النزاع ،بل أنها تتمسك ليس فقط بأن يكون السؤال يتعلق بمسألة قانونية ،و لكن أيضا صياغته ينبغي أن تكون قانونية، و الحقيقة أن ذلك من سلطة المحكمة و يعود لها وحدها تقدير جدية و جدوى هذه الدفوع .
وفي قضية الجدار العازل و كعادتها ردت المحكمة على الدفوع بتقديم التوضيحات التالية :
أنه فيما يخص مسألة الوضوح في السؤال تأكد المحكمة أن عدم الوضوح في السؤال لا يحرم المحكمة من النظر، بالإضافة إلى ذلك يمكن للمحكمة إعطاء السؤال المضمون القانوني. و قد سبق للمحكمة الدولية سواء السابقة ،أي الدائمة ،أو الحالية أن قامتا بذلك ، وقد ورد على المحكمة في مناسبات عديدة أسئلة غير واضحة و تنقصها الصياغة القانونية مما دفع بالمحكمة إلى توسيع السؤال و تأويله و إعادة صياغته في مناسبات عديدة .
و في قضية الحال لم تفعل المحكمة إلا ما فعلته في السابق بحث فهمت أن المقصود من السؤال بيان مدى مشروعية بناء الجدار أي هل كان البناء خرقا لمبادئ القانون الدولي و كان على المحكمة أن تتطرق لبيان مدى خرق تلك المبادئ .
أما فيما يخص الدفع بعدم قانونية سؤال الفتوى أكدت المحكمة أن السؤال القانوني قد يكون له طابع سياسي أيضا و هذا من طبيعة الأشياء ،فهناك أسئلة كثيرة تطرح في القضايا الدولية ولا يمكن تجريد السؤال من طابعه القانوني لأن له جوانب سياسية و من ثمة حرمان المحكمة من اختصاصها الأصيل حسب نظامها القانوني.
و مهما تكون الجوانب السياسية للسؤال المطروح على المحكمة لا يمكنها التخلي عن وظيفة خولها أيها الميثاق ،و هي أن فعلت ذلك يعد إخلالا بأحكام الميثاق. من ذلك ما تنص عليه المادة الرابعة من الميثاق بحيث تخول الجمعية العامة تقدير مدى التزام الدولة الراغبة في الانضمام إلى الأمم المتحدة بأحكام القانون الدولي و قدرتها على تنفيذ الالتزامات الناتجة عن ذلك ،فهل يمكن القول بانعدام الطابع القانوني لهذا السؤال لأنه يحتوي على جوانب سياسية ؟. بل أن المحكمة أكدت في قضية تفسير الاتفاق بين مصر و المنظمة العالمية للصحة انه عندما تلعب الاعتبارات السياسية دورا ظاهرا قد يكون من المفيد للمنظمة أن تطلب فتوى من المحكمة لمعرفة المبادئ القانونية الواجبة التطبيق في موضوع الخلاف ،كما أكدت المحكمة في قضية شرعية استعمال أو التهديد باستعمال الأسلحة النووية بأن البواعث السياسية التي أوحت بطلب الفتوى أو حتى الانعكاسات السياسية التي يمكن أن تترتب على الفتوى لا يمكن أن يؤثر كل ذلك على تقرير اختصاص المحكمة بإصدار الفتوى .
و في تعليقنا على موقف القضاء الدولي يمكننا ملاحظة مالي :
- أنه لا يمكن وضع معيار شامل مانع يمكن الاهتداء به في مسألة التفرقة بين المسائل السياسية و القانونية .
- الحدود بين المسائل السياسية و القانونية ليست واضحة، ذلك أن كل موضوع قانوني يكون في كثير من الأحيان يحتوي على جوانب سياسية ،أو يكون الباعث عليه سياسي، كما قد تكون له مخلفات أو انعكاسات سياسية. و تفسير ذلك في تقديرنا أن القانون لا يعدو أن يكون الأداة الفنية أو التطبيقية لما تقرره السياسة ،و خاصة في مجال العلاقات الدولية ،فإدارة هذه العلاقات و هي مسألة سياسية تتطلب أدوات تنظيمية و هي القانون و بالتالي لا يمكن الفصل بين الوسيلة (القانون ) و سبب وجودها (السياسة ) ،فحل الإشكالية القانونية يسهل مهمة السياسة ،و من جانب أخر طلب الرأي القانوني قد يكون سببه سياسي و هذا من طبيعة الأمور،فكل قاعدة قانونية ورائها فكرة سياسية .فالقانون لا يعدو أن يكون تصور سياسي لتنظيم العلاقات الاجتماعية على مستوى معين و في موضوع معين ،و بالتالي فكل سؤال قانوني غير منبت الصلة بالسياسة
- أن القضاء الدولي رفض دائما التخلي عن الفتوى أو إصدار الحكم لمجرد أن الموضوع له جوانب سياسية أو بواعثه سياسية ،فالهم في الموضوع أن يكون نظر المحكمة مبنيا على أساس القانون ،و هذا ما فعلته المحكمة دائما و لو استدعى ذلك إعادة صياغة السؤال المطروح لإظهار الجوانب القانونية فيه. و ليس من الضروري أن تكون القضية مجردة ،و أن تتم صياغتها بطريقة قانونية مجردة ،و ذلك لأن العلاقات بين الدول مرتبطة بمصالح مختلفة قد تعطي القضية ،و إن كانت قانونية أصلا ، طابعا سياسيا أيضا .
- لم يسبق للقضاء الدولي أن رفض الفتوى أو الحكم في مسألة لأسباب سياسية ،و هذا يؤكد أنها مسألة وهمية، و أن الأسباب التي دفعت إلى النص عليها في ميثاق الأمم المتحدة و النظام الأساسي للمحكمة هي مسألة سياسية تريد الدول من وراء ذلك إيجاد مخرج (وهمي) لتنصل من اختصاص المحكمة الإلزامي عندما ترغب في ذلك .و في نظرنا لا يمكن تصور وجود مسألة لا يمكن حلها ،إذا وقع حولها نزاع ،على أساس من القانون ،و القول بغير ذلك يؤدي بنا إلى التسليم بوجود حالات يكون فيها القاضي عاجزا عن الفصل في النزاع فيرتكب بذلك جريمة إنكار العدالة .